في مطلع القرن العشرين، كانت الشعب السوري يخوض ملحمته الوطنية في سعيه للاستقلال الناجز بكل معانيه، فمع هزيمة العثمانيين في نهاية الحرب العالمية الأولى تداعت القوى الاستعمارية الكبرى لتقاسم تركة الرجل المريض، ووزعت اتفاقية سايكس بيكو منطقة بلاد الشام بين القوتين الأكبر آنذاك، بريطانيا العظمى وفرنسا، وكانت سورية من نصيب المستعمر الفرنسي الذي اجتاح بقواته الأراضي السورية منذ العام 1918، وصولاً إلى احتلالها بالكامل عام 1924 على إثر معركة ميسلون التي خاض فيها البطل التاريخي يوسف العظمة قتالاً دامياً لوقف العدوان أدى إلى استشهاده، وما تلى ذلك من القضاء على المملكة السورية الوليدة وملكها فيصل الأول، واستبدالها بالانتداب الفرنسي.
وما لبثت الأرض السورية أن اشتعلت بثورات متعددة هدفها إخراج المستعمر الفرنسي وإقامة الدولة الوطنية الجامعة لجميع أبناء الوطن، فثار الشيخ صالح العلي في جبال الساحل السوري عام 1919، واستمرت ثورته حتى نهاية عام 1921. وفي الشمال اندلعت ثورة الزعيم المجاهد إبراهيم هنانو عام 1920 واستمرت حتى عام 1926، فيما كان جبل العرب ودمشق وغوطتها وسائر المناطق الجنوبية على موعد مع الثورة السورية الكبرى بقيادة زعيمها سلطان باشا الأطرش عام 1925 والتي استمرت حتى عام 1927. وإن كانت هذه الثورات قد فشلت في الوصول إلى إخراج المستعمر بالقوة العسكرية، إلا أنها كانت الأساس الذي قامت عليه الحركة الوطنية في نضالها الطويل وصولاً إلى يوم الجلاء في السابع عشر من نيسان عام 1947.
مولده ونشأته
ولد إبراهيم هنانو في بلدة كفر تخاريم من أعمال حلب سنة 1869م في شمال سورية، ووالده هو سليمان آغا بن محمد هنانو، الذي تنحدر أسرته من أصول كردية، وكانت من الأسر الغنية، فعنيت بتعليم إبراهيم وتنشئته على أفضل ما يكون التعليم في ذلك الزمن، ووالدته ابنة الحاج علي الصرما من أعيان كفر تخاريم.
بعد أن أنهى إبراهيم تعليمه الأساسي، التحق بالمدرسة الملكية للحقوق والإدارة في الآستانة (اسطنبول) وتخرّج منها، لينخرط بعدها في الوظيفة الحكومية، ويتنقل في عدد من الوظائف الإدارية، التي قادت خطاه إلى عدد من المدن العثمانية، بعمل مديراً لناحية من ضواحي اسطنبول ثلاث سنوات، ثم عين قائمقام في أرضروم وبقي فيها أربع سنوات، حيث تزوج إبراهيم هنانو (ولدت له ابنة أسماها نباهت، وولده أسماه طارق، وقد توفيت زوجته على إثر هذه الولادة)، بعد ذلك عين كقاضي تحقيق في كفر تخاريم وبقي فيها ثلاث سنوات، حتى انتهى به الحال عضواً في مجلس إدارة حلب لمدة أربع سنوات، قبل أن يصبح رئيساً لديوان ولاية حلب سنة 1918م. وقد تم انتخابه ممثلاً لمدينة حلب في المؤتمر السوري الأول الذي انعقد في دمشق (1919-1920).
إرهاصات الثورة في المنطقة الشمالية من سورية ودخول إبراهيم هنانو على خط النضال
في ذلك الوقت، كانت نيات فرنسا الاستعمارية باستعمار سورية قد أصبحت واضحة للعيان، فاحتلت الساحل السوري وبدت نواياها للتقدم في عمق الأراضي السورية.
كانت أعمال التمرد المسلح قد انطلقت في الشمال السوري بقيادة آل بركات في شهر أيار عام 1919 وتكبد فيها الفرنسيون خسائر فادحة، فخاضوا معركة السويدية وغيرها من المعارك مع الجيش الفرنسي، إلا أن علاقة قادة الثوار الوثيقة مع الأتراك أدت إلى توقف الثورة بعد تخلي قادتها عنها على إثر توقيع الهدنة بين فرنسا وتركيا في 30 آذار من عام 1920. وأخذ المجاهدون يعيدون تنظيم صفوفهم من جديد بقيادة الشيخ المجاهد يوسف السعدون.
وقد دفع حماس إبراهيم هنانو للنضال ضد المحتل الأجنبي والي حلب آنذاك رشيد طليع إلى الاعتماد على إبراهيم هنانو لتوسيع رقعة الثورة – بإيعاز من الحكومة الفيصلية – واستقر رأي هنانو على تشكيل مجموعات قليلة العدد سريعة الحركة تعمل على خلق الفوضى، وإثارة الذعر في نفوس المحتلين.
انطلاق شرارة الثورة
قام هنانو باستدعاء عدد من أهالي قريته الذين يثق بوطنيتهم وقدراتهم لتشكيل أول حضيرة من حضائر الجهاد في المنطقة الشمالية حيث تمكن الوطنيون من تنظيم أنفسهم في جمعية أطلقوا عليها اسم «جمعية الدفاع الوطني»، وقد تم تقديم السلاح والذخيرة لهذه المجموعة الثورية النواة، وقد كان مردود ذلك جيداً، فقر القرار على زيادة عدد المجاهدين الذي ارتفع إلى أربعين، وكلفت لجنة رباعية بالمهام التشريعية والقضائية للثورة ما زادها تنظيماً وفعالية.
كان هنانو رجلاً يملك وعياً عالياً، وكان خطيباً مفوهاً وقد ترك خطابه الشهير الذي وجهه لأبناء الشعب السوري صداه الطيب في تجميع المناضلين وتزايد أعدادهم وقد قال فيه: «يا أبناء سورية الأشاوس، يا أباة الضيم، من قمة هذا الجبل الأشمّ أستصرخ ضمائركم، وأقول لكم، إن بلادنا العزيزة أصبحت اليوم محتلة، مهددة من قِبَل المستعمرين، أولئك الذين اعتدوا على قدسية استقلالنا وحرياتنا، فيا أبطال الوغى، ويا حماة الديار، إلى الجهاد، إلى النضال عملاً بقوله تعالى: {وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم}».
وبعد أن بلغ عدد المجاهدين في قرية كفر تخاريم خمسين رجلاً، بدأت حركة تجنيد مماثلة في القرى المجاورة حتى أصبح عدد المجاهدين 400 مجاهد. وقامت هذه القوة بالهجوم ليلة 18-19 نيسان 1920 على حارم فهزمت الفرنسيين وأجبرتهم على الانسحاب إلى القلعة الرومانية المجاورة قرب القصبة، وبقيت هذه القوة محاصرة حتى سقوط حكومة دمشق في 25 تموز 1920.
وبعد دخول الجيش الفرنسي لمدينة حلب يوم الجمعة 23 تموز 1920، انسحب هنانو من حلب إلى مسقط رأسه كفر تخاريم، وبدأ بإعادة تنظيم الثورة بالتعاون مع المجاهد نجيب عويد. واستقر رأي الثائرين على تشكل حكومة مدنية مقرها أرمناز وأوكل إليها تنظيم الأمور المالية والاقتصادية للثورة والمجتمع، وعقد اجتماع عام يضم وجهاء نواحي المنطقة الشمالية لمفاتحتهم بإعلان الثورة، وتقرر في هذا الاجتماع الدعوة للثورة، وسفر هنانو إلى تركيا كي يطلب من حكومتها مساعدة الثائرين ضد الاستعمار الفرنسي.
وهكذا انطلق هنانو في شهر آب 1920 إلى مدينة مرعش ليقابل قائد الفيلق الثاني التركي، حيث عقد معه اتفاقية كي تمد الحكومة التركية الثورة بالأسلحة والذخيرة. وتم توقيع هذه الاتفاقية في 6 أيلول من عام 1920.
إعلان الثورة
بعد عودة هنانو إلى سورية قام بتقسيم المناطق الشمالية إلى مناطق ثانوية وأوكل كل منطقة برئيس على الشكل التالي:
1- منطقة القصير بقيادة الشيخ يوسف السعدون.
2- منطقة كفر تخاريم بقيادة نجيب عويد.
3- منطقة جبل الزاوية بقيادة مصطفى الحاج حسين.
4- منطقة جبل صهيون بقيادة عمر البيطار.
وبعد استتباب الأمور التنظيمية قام هنانو بإعلان الثورة في أواسط شهر أيلول 1920 بإذاعة بيان على الشعب حض به على الثورة وطالب قناصل الدول الأجنبية التدخل لوقف مجازر الفرنسيين. على إثر ذلك وصل رسول من الشيخ صالح العلي قائد الثورة في الجبال الساحلية عارضاً على هنانو التعاون بين الثورتين فرحب هنانو بذلك واستقر الرأي أن تقوم قوات الثورة الشمالية باحتلال جسر الشغور لترسيخ وضع كل من الثورتين.
معركة جسر الشغور
وفي أواخر شهر تشرين الثاني 1920 تقدم هنانو باتجاه جسر الشغور ومع ثلاث سرايا من المجاهدين، ولما وصلت الحملة في منتصف ليلة 27 تشرين الثاني 1920 إلى مزرعة الشغارنة التي تبعد حوالي 3 كم عن جسر الشغور تناهى لها وجود سرية فرنسية في المزرعة المقابلة المسماة مزرعة السيجري، ونظراً لاستحكام الفرنسيين في تلك المزرعة، وضع هنانو خطة لوضعهم بين فكي كماشة، فأوعز للمجاهد يوسف السعدون أن يلتف مع عناصر سريته وراء الفرنسيين فيما هاجمهم هنانو من الأمام، وقد نفذت الخطة بشكل جيد ما دفع الفرنسيين للاستسلام في نهاية الأمر، وأسر المجاهدون فصيلة من 25 جندياً يقودهم ضابط، وفصيلتي من المرتزقة عددها 57 رجلاً بإمرة ضابط. وغنموا مدافع رشاشة وبغالاً وكمية كبيرة من الذخيرة.
بعد هذه المعركة استسلمت حامية جسر الشغور بدون قتال ودخلت قوات المجاهدين المدينة فاستقبلها الأهالي استقبال الأبطال.
مع وصول أخبار انتصارات إبراهيم هنانو إلى الفرنسيين قرروا استعادتها مهما كلف الأمر، فقاموا بتسيير حملة قوامها لواء معزز من 2500 جندي، ولما سمع المجاهدون بقدوم هذه الحملة نصبوا لها فخاً في مدينة إدلب في 29 تشرين الثاني 1920، حيث اختلط المجاهد نجيب عويد مع مجاهدين آخرين بين صفوف الأهالي المتفرجين على الحملة وفور انتهاء مرورها أمطروها بوابل من الرصاص ما تسبب بسقوط 63 قتيلاً فرنسياً، وانسحب المجاهدون بعد استشهاد أربعة منهم.
الفرنسيون يحتلون كفر تخاريم والثوار يحررونها
بعد معركة إدلب، أدرك الفرنسيون حجم وخطورة الثورة التي اندلعت في الشمال، وصمموا على ضرب مركز الثورة فانطلقوا نحو كفر تخاريم ودخلوها في 30 تشرين الثاني 1920 بعد أن فقدوا 40 قتيلاً في القرى المجاورة ومشارف كفر تخاريم نفسها، وسقط في تلك المعارك ثلاثة شهداء وانسحب البقية إلى الجبل الغربي.
لم يطل الوقت بالمجاهدين حتى استعادوا كفر تخاريم بمعركة بطولية قادها المجاهد نجيب عويد مع نفر من المجاهدين، وحسب رواية المجاهد عويد التي أكدها العديد من الأبطال الذين اشتركوا بها وبقوا على قيد الحياة إلى ما بعد الاستقلال، حيث قسم عويد المجاهدين إلى ثلاثة فرق: فرقة تأتي من الشرق، وأخرى من الجنوب، والبقية ظلت مع القائد عويد، وعند بزوغ الفجر كان رفع الأذان إشارة الانطلاق، فباشر المجاهدون إطلاق النار وقذف القنابل اليدوية على الخيم، وما كاد شروق الشمس يبين حتى توافدت النجدة من القرى المجاورة فازداد عدد المجاهدين وزاد تصميمهم. وفي النهاية حصر المجاهدون القوة الفرنسية في أرض منخفضة نسبياً من ثلاث جهات، ولم يبقَ له منفذ إلا من الشمال، فانسحب شمالاً باتجاه حارم تاركاً ما يزيد على 130 قتيلاً، فيما سقط من الثوار 12 شهيداً.
حملات الجنرال دي لاموت
حملة ديبيوفر الأولى
بعد معركة كفر تخاريم وجد الجنرال دي لاموت – قائد منطقة حلب العسكرية – نفسه في وضع يضطره إلى القضاء على الثورة مهما بلغت التضحيات، فوجه حملة بقيادة الكولونيل ديبيوفر انقسمت إلى رتلين: الأول انطلق من مخفر الحمام، والثاني انطلق من إدلب في الجنوب. وكانت غاية الفرنسيين من ذلك حصر قوات هنانو بين فكي كماشة. ولكن أياً من الرتلين لم يحقق مهمته، إذ تصدى للأول الشيخ يوسف السعدون ورفاقه عندما حاول الرتل اجتياز نهر العاصي للوصل إلى الضفة الشرقية عند موقع جسر الحديد فمني بخسائر كبيرة قبل ان يتمكن من اجتيازه. أما قوات الرتل الثاني فاصطدمت مع المجاهدين في 7 كانون الأول في منطقة كفر سرجة وفي 8 كانون الأول 1920 اصطدمت معهم في قرية طلينا ما أدى إلى خسائر كبيرة في الأرواح على رأسهم ضابطان. وبعد التقاء الرتلين قامت الحملة مجتمعة بمهاجمة منبج فلم تقدر على احتلالها إلا بعد معركة عنيفة خسرت بها ضابطاً وعدداً من القتلى.
وفي 29 كانون الأول 1920 كانت الحملة قد خسرت عدداً كبيراً من القتلى ما استدعى إعادتها إلى حلب لتنظيمها من جديد.
حملة غوبو
بعد إعادة حملة ديبيوفر إلى حلب، سيرت القوات الفرنسية حملة بقيادة الجنرال غوبو في محاولة لتلافي أخطاء الحملة السابقة، وكان قوام الحملة مؤلفاً من فرقة مشاة معززة، فتجنب الثوار مواجهتها في منطقة مكشوفة واعتمدوا أسلوب المباغتة بمجموعات قوية قليلة العدد سريعة الحركة. ولم تكد الحملة تجتاز جسر الشغور حتى وجدت نفسها هدفاً لحرب عصابات لم تستطع معها السير أكثر من كيلومتر واحد دون التعرض لهجمة مفاجئة أو الوقوع في كمين منصوب.
نتيجة لذلك طلب الجنرال غوبو موافاته بإمدادات على وجه السرعة، فسيرت له القيادة في حلب قافلة مؤلفة من 360 جملاً محملاً بمختلف أنواع الاحتياجات، ولكن هذه القافلة لم تصل، إذ كمن لها الثوار فغنموا الجمال بأحمالها وقتلوا ضابطاً مرافقاً لها تبين أنه ابن الجنرال غوبو نفسه.
وفي 3 شباط 1921 عادت حملة الجنرال غوبو منهكة إلى إدلب عن طريق جسر الشغور بعد معركة مع الثوار في قرية الرامي في 28 كانون الثاني 1921 فخسرت عدداً كبيراً من القتلى بينهم ضابطان.
حملة ديبيوفر الثانية
لم تكد حملة غوبو تنتهي حتى عادت حملة ديبيوفر الثانية بعد أن استكملت عددها وعدتها، وكان أول ما فعله ديبيوفر أن طوق قرية كللي بجنوده أواسط شهر شباط 1921 وفتش القرية بحثاً عن المجاهدين، فلما لم يجد أحداً منهم اعتقل 27 من رجال القرية وأعدمهم. وتوجه بعد ذلك بحملته إلى قرية زردنا فحرق بيادرها وبيوتها، وقام بتعذيب مختار القرية حتى الموت لأنه رفض أن يدله على أماكن تواجد الثوار.
الثورة تنتقل إلى جبل الزاوية
نتيجة تشدد الحملات الفرنسية، قام الثوار بنقل نشاطاتهم إلى جبل الزاوية بقيادة مصطفى الحاج حسين، فسيرت السلطة الفرنسية حملة إلى الجبل مكونة من كتيبة مشاة معززة للقضاء على تحركات الثوار، فكمن المجاهدون للحملة في أعالي جبل الأربعين وأطبقوا على الحملة من كل جانب ما أدى إلى هزيمة الحملة بعد ثلاث ساعات من القتال المرير، وترك الفرنسيون في ساحة المعركة 70 قتيلاً فيما سقط نصف هذا العدد من بين المجاهدين.
وفي 7 آذار 1921 تحركت كتيبة من الجند بقيادة الكولونيل أندريه من جسر الشغور إلى دركوش فتصدى لها المجاهدون بقيادة الشيخ يوسف السعدون قرب قرية الدويلة وقتلوا عدداً كبيراً من أفرادها على رأسهم قائد الحملة الكولونيل أندريه نفسه والذي أتت طائرة الجنرال دي لاموت خصيصاً لنقل جثمانه إلى حلب.
وتعد معركة وادي درعان قرب قرية سرجة أهم معركة لمجاهدي جبل الزاوية والتي جرت في الأيام الأولى من شهر نيسان عام 1921 وأسفرت عن سقوط ما يزيد عن 120 جندي فرنسي قتلى، فيما استشهد فيها 65 من المجاهدين.
مفاوضات وغدر
بعد أن وجد الفرنسيون صعوبة في القضاء على ثورة إبراهيم هنانو، اقترح الكولونيل فوان على الجنرال غوبو – قائد الفرقة الفرنسية المرابطة في إدلب- إجراء مفاوضات مع هنانو من أجل إنهاء الثورة، ولم يمانع هنانو في إجراء المفاوضات سعياً في تخفيف قبضة الفرنسيين عن السكان المحليين الذين كانوا يتحملون القسط الأكبر من القمع الفرنسي، وتمت المقابلة بين الطرفين في قرية نحلة يوم الجمعة 17 نيسان 1921. وحضر من الجانب الفرنسي الجنرال غوبو والكولونيل فوان، ومن الجانب الآخر حضر الزعيم هنانو وبصحبته عدد من زعماء الثورة.
وقد عرض الجنرال غوبو على هنانو باسم السلطات الفرنسية تسليمه رئاسة حكومة محلية في أقضية حارم وإدلب وجسر الشغور بشرط أن يتم إنهاء الثورة وأن يسلم الثوار أسلحتهم، فرد هنانو هذا العرض قائلاً: «إن من موجبات نقمة السوريين على سياستكم الاستعمارية إقامة هذه الدويلات، فهل أرضى لنفسي رئاسة دولة أحاربكم من أجل تمزيق البلاد إلى دويلات مثلها؟ إن الفرنسيين دخلوا البلاد السورية رغم رغبة سكانها فلينسحبوا منها إلى خارجها وليعلن في البلاد عن إجراء انتخابات حرة، حتى إذا ما تمت الانتخابات بجو هادئ واجتمع المجلس المنتخب، فإن إبراهيم هنانو سيكون في طليعة الذين يرضخون لمقرراته ولو كانت قبول الانتداب الفرنسي على أن يتعهد الجانب الفرنسي باحترام هذا القرار مهما كان نوعه».
لم يقبل الجنرال بعرض هنانو ففشل الاجتماع وعاد كل من القائدين إلى مركزه بعد ان اتفقا على هدنة تنتهي بعد 48 ساعة. ولم تكد الهدنة تنتهي (أي في صباح 20 نيسان 1921) حتى كانت الطائرات تلقي بحممها على المجاهدين والمدفعية الجبلية تدك معاقلهم، بينما تسلق الجنود الفرنسيون جبل الزاوية من شرقه مستخدمين مختلف صنوف الأسلحة، واضطر الثوار إلى الانسحاب من الجبل والطائرات تلاحقهم أينما ذهبوا.
وبما أن نقص الذخيرة كان واحداً من أهم أسباب انسحاب الثوار، فقد أرسل هنانو المجاهد نجيب عويد إلى مناطق حماة لتأمين الأسلحة والذخيرة، فيما أرسل رسولاً آخر إلى تركيا لنفس الغاية. إلا أن عويد عاد خالي الوفاض، فيما رفض قائد الفيلق الثاني تسليم رسول هنانو أية كمية من الذخيرة بناء على أوامر من الخارجية التركية التي كانت قد دخلت في مفاوضات مع فرنسا للاتفاق على سحب القوات العسكرية الفرنسية من كيليكيا. ولم تكتفِ تركيا بذلك فقط بل أوعزت إلى بعض عملائها للقيام بأعمال تخريب ذات طابع طائفي كي تسيء للثورة وقيادتها.
اعتقال الزعيم هنانو
كان وضع الثورة قد أصبح حرجاً، فقد خسرت العديد من مجاهديها الأبطال، ونفذت الذخيرة من أسلحة المقاتلين، فيما كانت القوات الفرنسية تلاحقهم في كل قرية وناحية. على إثر ذلك، دعا الزعيم إبراهيم هنانو لمؤتمر عام حضره جميع قادة الثورة وشرح لهم وضع الثورة وتباحث معهم في أفضل ما يمكن فعله. وقد انقسم المجاهدون في آرائهم، فمنهم من رأى الالتجاء للأراضي التركية المتاخمة حتى يتمكن من شن الغارات على المستعمرين كلما سنحت الفرصة، وكان المجاهد نجيب عويد من أنصار هذا الرأي، فيما رأى الزعيم هنانو الذهاب إلى الأردن إلى كنف الهاشميين ووافقه في ذلك جمع من المجاهدين، أما الفريق الثالث فكان معظمه من كبار السن، وممن تقعده مسؤولياته العائلية عن السفر والرحيل فآثر البقاء على أن يبقى رهن إشارة قائد الثورة للعودة إلى الجهاد في أي وقت. وعلى ذلك سارت كل فئة إلى سبيلها.
وفي ليلة 11-12 تموز 1921 توجه هنانو ورفاقه إلى شرق الأردن عن طريق بادية الشام، ولكنهم تعرضوا للعديد من المتاعب والمعارك، وجرت معركة كبيرة بالقرب من مدينة حماة سميت معركة مكسر الحصان بين الثوار والفرنسيين، استشهد فيها العديد من الثوار، وكانت القوات الفرنسية تسعى لأسر إبراهيم هنانو حياً ومحاكمته. وأخيراً، وصل هنانو وحده إلى جبل العرب، ومنه تمكن من المغادرة إلى عمان. ولم يطل المقام كثيراً بهنانو في الأردن، إذ لم يرحب الأمير عبد الله بمساعدته، فتوجه إلى فلسطين، وهناك قبضت عليه السلطات البريطانية في القدس وسلمته للفرنسيين الذين وضعوه في السجن المركزي في حلب تمهيداً لمحاكمته.
قدم "إبراهيم هنانو" إلى المحاكمة، وقد طالب المدعي العام الفرنسي بمرافعته الطويلة إعدام "هنانو" ومما جاء في معرض مرافعته:
«لو كان "لإبراهيم هنانو" سبعة رؤوس، بعدد جرائمه، لطلبت إعدام رؤوسه السبعة، ولكنه لا يملك إلا رأساً واحداً».
لكن المحكمة خوفاً من تصاعد الثورة وخوفاً من غضب الشعب وهي تدرك حب الشعب "لهنانو" واحترامهم لتوجهاته الوطنية والثورية قررت براءته.
محاكمة الزعيم هنانو
تم تقديم إبراهيم هنانو إلى المحاكمة، حيث طالب المدعي العام الفرنسي في مرافعة طويلة بإعدام هنانو قائلاً: «لو كان لإبراهيم هنانو سبعة رؤوس بعدد جرائمه، لطلبت إعدام رؤوسه السبعة، ولكنه لا يملك إلا رأساً واحداً». إلا أن المحكمة خافت من غضب الشعب وحبه لهنانو فقررت براءته. وفيما يلي إحدى أكثر القصص شيوعاً عن هذه المحاكمة:
«في منتصف شهر آب 1921 شاع في المدينة أن ابراهيم هنانو وصل إلى حلب موقوفاً وأودع السجن العسكري الذي كان يومئذٍ في الخان المعروف باسم خان استانبول في محلة السويقة بحلب .كان هنانو مسجوناً في سجن انفرادي عندما زاره المحامي الشاب فتح الله صقال .سأله المحامي : أشكر لك ثقتك بي، ولكن لم أفهم لتصرف النائب العام الفرنسي معنى وهو الخصم الأكبر في قضيتك، ما الذي دفعه إلى إرسال كتاب بالسماح لي بزيارتك في السجن وأنا لا علم لدي بأنك قد وكلتني أصلاً بالدفاع عنك؟
أجاب هنانو: لقد عرض علي كثيرون من زملائك أن يدافعوا عني، وفجأة، خطر لي أن أستحلف النائب العام بشرفه العسكري أن يدلني على المحامي الذي يختاره هو فيما لو كان متهماً مثلي.
وقد رفض النائب العام في بادئ الأمر أن يجيب على سؤالي هذا ولكنه ما لبث ان أسرّ في أذني، أنه لو كان متهماً لاختارك أنت للدفاع عنه.
يقول فتح الله صقال في مذكراته: لقد كان هنانو رجلاً ذكي النفس، صلب العقيدة قوي الإرادة، وكانت عيناه تشعان بنور غريب وتكادان تقذفان شرراً.
استغرقت الزيارة ساعتين متواصلتين تبادل فيها الطرفان الأحاديث، وبعدها، صعد المحامي إلى مكتب النائب العام وشكره على ثقته فقال له هذا الأخير :إذا وفقك الله وانتصرت عليّ فسأكون أول من يهنئك.
ثم وضع ملف الدعوى بين يدي المحامي الذي أخذ بمطالعتها بإسهاب، ثم اتضح له ما يلي :
- أن حرباً قد دارت بين الجيش الفرنسي من جهة وبين هنانو ورجاله من جهة أخرى.
- أن هنانو قابل الجنرال غوبو قائد الحملة الفرنسية ضد الثورة السورية ليتفق معه على شروط الهدنة.
- أن هدنة قد عقدت بين الطرفين مرتين متواليتين.
- أن الفريقين تبادلا الأسرى.
ونتيجة لهذا الكلام فإنه لا يمكن اعتبار هنانو مجرماً عادياً ولا حتى مجرماً سياسياً وهذه النظرية لا تحتمل الشك، إلا أن الخطير في الأمر هو أن الخصم في القضية سيكون هو نفسه الحاكم فيها، والمعروف أن المحاكم العسكرية تتأثر بالعاطفة أكثر مما تتأثر بأحكام القانون.
ولهذا، رأى المحامي أن يسعى لدى الجنرال غورو – المفوض السامي والقائد العام للجيش الفرنسي والرئيس الأعلى للقضاء العسكري – ليوقف سير تلك الدعوى المحفوفة بالمخاطر، فأرسل له كتاباً بيّن فيه نظريته لأسباب جمة ومنها :
- أن هنانو قام بثورته مطالباً بحرية بلاده، والمطالبة بالحرية لا تعد جرماً، بل حقاً طبيعياً اعترفت به الدول الكبرى ومنها أميركا بلسان رئيسها ولسن الذي اشتهر ببنوده الأربعة عشر.
- أن السلطة العسكرية الفرنسية نفسها اعترفت بأن هنانو ورجاله يشكلون طرفاً محارباً.
- اللقاءات التي تمت بين هنانو والقادة العسكريين الفرنسيين والاتفاقيات التي عقدت بين الطرفين.
ثم أشار المحامي إلى أن إلقاء القبض على هنانو في فلسطين وتسليمه إلى السلطة الفرنسية في سورية يخالف قواعد القانون الدولي.
ولهذه الأسباب الوجيهة، طلب المحامي أن يعاد هنانو إلى فلسطين أو أن يطلق سراحه في الأراضي السورية.
جاء الرد من القيادة الفرنسية بأن هنانو متهم بجرائم عادية لا بجرائم سياسية، وأنه لا بد من السير في الدعوى وانتظار نتيجة التحقيقات.
استمرت التحقيقات حوالي الستة أشهر، وكان كل طرف يستعين بالوثائق والشهود دفاعاً عن وجهة نظره في القضية. وفي محاولة أخيرة من المحامي، بعث الأخير كتاباً ثانياً إلى الجنرال غورو يطلب فيه اعتبار هنانو تابعاً من الناحية العسكرية للجيش النظامي التركي الذي كان يمده بالسلاح والعتاد وبالتالي شموله بالعفو العام عن الجرائم السياسية التي ارتكبت أثناء العمليات العسكرية بين الفرنسيين والأتراك. فكان جواب المفوض السامي بأن القضية قد أصبحت بين يدي السلطة القضائية العسكرية وأنه لا بد من انتظار قرارها.
تبلغ المحامي أن المحاكمة ستبدأ في الخامس عشر من آذار 1922 في دار الحكومة (السراي القديمة) وفي الغرفة المعدة لمحكمة الجنايات الأهلية.
وفي اليوم المعين للمحاكمة، اصطف الجنود السنغاليون على جانبي الطريق الممتد من بناية البريد القديمة (في باب الفرج) إلى مدخل دار الحكومة (جانب المبنى القديم للهجرة والجوازات) فقاعة محكمة الجنايات، وغصت جميع الطرقات بالألوف من المواطنين، وقاعة المحكمة بالمحامين والمستمعين.
وفي تمام الثامنة صباحاً، خرجت الهيئة الحاكمة بألبستها الرسمية وسيوفها اللامعة وكفوفها البيض، وكانت مؤلفة من خمسة أعضاء وكانت النيابة العامة ممثلة أيضاً وكانوا جميعاً من الفرنسيين.
ساد القاعة سكوت رهيب، واستهلت الجلسة أعمالها بتكليف المحامي بإلقاء دفاعه الأول الذي استمر ساعة كاملة، وكانت اللغة الفرنسية هي المعتمدة بلا شك في الدفاع.
بدأ المحامي بالكلام: «في هذه الساعة الخطيرة التي تتأرجح فيها حياة رجل، يجب أن يتلاشى من هذا المكان كل ميل وهوى، لأنكم بجلوسكم منذ برهة على هذه المنصة قد فقدتم صفتكم العسكرية الفرنسية، ولم تحتفظوا إلا بصفة القضاة الحياديين.عليكم أن تسكتوا جميع الأصوات ما عدا صوت الضمير الذي يجب أن يسود هنا لأنه وحده يستطيع أن يحكم بدون حقد ولا وجل. إن الرجل الماثل أمامكم ليس بالرجل الذي وصفه النائب العام، لأن من يناضل من أجل حرية بلاده ومن يعمل في سبيل هدف سام دون أن يخشى التضحية بحياته وبأمواله ليقينه أنه على حق وسداد لا يستحق أن يلقى على هذا المقعد. لقد اقتنع هنانو أن سورية جديرة بإدارة شؤون أبنائها بنفسها، وإذا كانت قد تخلصت من نير، فليس معنى ذلك أن تقع تحت نير ثان. الوطن كلمة يهتز لها كل إنسان لأنها تختلج في أعماق كيانه، هو الأرض التي يثوي تحت أديمها الآباء والأجداد والتي يرغب كل مواطن في أن يرقد بين طياتها رقاده الأخير. هل لكم الصفة التي تخولكم حق محاكمة هنانو؟ لا يجوز لكم محاكمته بحسب قانونكم، فما سنت القوانين إلا لتطبق، وقانونكم لا يعطي المحاكم العسكرية الحق في النظر في هذه القضية، وأطلب أن تعلنوا عدم صلاحيتكم في مقاضاة ابراهيم هنانو».
اختلت المحكمة نحو نصف ساعة وعادت وأعلنت بإجماع الآراء صلاحيتها للنظر في قضية هنانو. بهذا خسر المحامي جولته الأولى في عدم صلاحية المحكمة للنظر في الدعوى، فلجأ إلى معركته الثانية بشأن عدم قانونية إخراج هنانو من فلسطين. كان واضحاً أن الاتفاق المعقود بين المفوض السامي الفرنسي وبين المفوض السامي الإنكليزي بشأن تبادل المجرمين جاء فقط لتسليم هنانو على الرغم من عدم شرعية هذا الاتفاق نظراً لتجاوزه أحكام الدستور الفرنسي من حيث وجوب تصديق مثل هذه الاتفاقات من قبل البرلمان الفرنسي. عادت الهيئة إلى غرفة المداولة بعد هذا، لتخرج وترد الدفاع الذي تلاه المحامي وبأغلبية أربعة أصوات من أصل خمسة، أي أن قاضياً عسكرياً فرنسياً واحداً اقتنع بوجهة نظره، فشعر المحامي بنفحة من الأمل، وأصبح يتوق إلى معرفة الضابط الذي تبنى نظريته.
عقدت جلسة ثانية بعد الظهر، بدأت بتلاوة لائحة الاتهام من قبل كاتب الضبط، وعزي فيها إلى هنانو سبعة أنواع من الجرائم، ثم بدأ الرئيس باستجواب هنانو عن كل جريمة من الجرائم المنسوبة إليه. كان هنانو يمتاز بالنباهة والذكاء، والثقافة والجرأة، وهي صفات سهلت مهمة المحامي كثيراً.
وراح هنانو يرد الاتهامات التي كان يوجهها له الرئيس أثناء استجوابه :«إنني متهم سياسي فقط، ولو كنت مجرماً عادياً لما فاوضني ممثلكم الجنرال غوبو بشأن عقد هدنة ومبادلة الأسرى، ولما عقدت معي حكومة أنقرة التي تعترفون بها اتفاقاُ، لأن الحكومتين الفرنسية والتركية أسمى وأجلّ من أن تتنازلا لمفاوضة مجرم شقي. أنا ثائر سياسي أدافع عن وطني، وقد جاهرت وسأجاهر بأنني أتبرأ من كل مجرم سفّاك».
سأله الرئيس: من اضطرك إلى أن تحارب؟
أجابه: عندما أهاجم، أغدو مضطراً لأن أدافع عن نفسي.
فقال له: لو بقيت آمناً مطمئناً في منزلك لما حدث ما حدث، ولما وقفت هذا الموقف.
أجابه هنانو على الفور: هذا اجتهاد خاص، ولا يلام المرء على اجتهاده.
استأنفت المحكمة أعمالها في اليوم التالي وبدأت بسماع شهود الإثبات وكان عددهم يربو على السبعين، وقد استغرق سماعهم أربعة أيام متوالية حدث خلالها جدال عنيف بين النيابة والدفاع في تفنيد الشهادات. ثم جاء دور شهود الدفاع، وكان من بينهم السادة: فاخر الجابري، سعد الله الجابري، الدكتور عبد الرحمن الكيالي، شاكر نعمت الشعباني ، أحمد المدرس ، الشيخ عبد الوهاب طلس ، الشيخ كامل الغزي، عبد الوهاب ميسر، والأستاذ راشد المرعشي وغيرهم. كانت شهاداتهم كلها تؤيد ما يتحلى به إبراهيم هنانو من وطنية صادقة ومبادئ عالية وتجرد تام.
وفي اليوم السابع من المحاكمة طلب الرئيس من النائب العام الفرنسي أن يبدي مطالعته، فتحدث حوالي ثلاث ساعات وختم المطالعة بالقول: لو كان لإبراهيم هنانو سبعة رؤوس بعدد جرائمه السبعة لطلبت إعدام رؤوسه السبعة، ولكنه لا يملك إلا رأساً واحداً. ولما طلب الرئيس من المحامي إلقاء دفاعه شعر الأخير برعشة قوية اهتز لها كيانه لأنه أدرك خطورة الموقف وعظم المسؤولية الملقاة على عاتقه في ذلك اليوم المشهود، لأنه إما أن يخرج من موقفه الخطير مخذولاً وإما أن يفوز وينقذ حياة أحد زعماء الأمة.
وهكذا، بدأ المحامي بالحديث عن التهم الموجهة لهنانو تهمة تهمة ويبدي دفاعه فيها، وكان أولها وأهمها تهمة تشكيل عصابة من الأشقياء، وترمي هذه التهمة إلى أن هناك اتفاقاً جنائياً تم بين هنانو ورفاقه في الثورة. وكرر المحامي الدفاعات التي تعلقت بالمفاوضات مع القوات الفرنسية وكيف أن هنانو كان مدعوماً من القوات النظامية التركية وكيف تم تبادل الأسرى، ومن الجدير بالذكر هنا هو أنه عندما عرض الكولونيل الفرنسي فوان على هنانو أن يبقى رهينة عند رجال الأخير كنوع من الضمانة ريثما ينتهي لقاءه مع الجنرال غوبو، فإن نبل أخلاق هنانو وسعة مروءته دفعته إلى رفض هذا العرض قائلاً أنه واثق بالشرف العسكري الفرنسي.
واشتدت لهجة المحامي شيئاً فشيئاً موحياً إلى المحكمة أن الجزء الأهم من المرافعة على وشك السرد فقال الأستاذ فتح الله صقال :«إن هنانو قام بثورته مدفوعاً بعاطفة وطنية نبيلة تماثل العاطفة التي هزت فرنسا من أقصاها إلى أقصاها حينما احتلت ألمانيا عام 1914 بعض البلاد الفرنسية، فأبى الفرنسيون أن تداس أرض الوطن، وهبّوا يقاتلون ويستبسلون في الكفاح، حتى خرجت فرنسا من حومة النضال منتصرة ظافرة بعد أن ضحت بمليونين من شبابها، وبعد أن أمست كثير من مدنها الزاهرة أطلالاً دوارس. إن الوطنية ليست وقفاً على فرنسا وأبنائها، وإنما هي عاطفة طبيعية متغلغلة في أعماق النفوس، تشعر بها كل أمة من أمم الأرض ومنها الأمة السورية».
كان لتلك الكلمات وقع مغاير على أسماع من كان حاضراً وعلى رأسهم الهيئة الحاكمة. ثم أنهى المحامي دفاعه عن التهمة الأولى وأتبعه بالدفاع عن التهم الست الباقية المتفرعة عن التهمة، ثم ختم المحامي ساعات من المرافعة فقال :«نتقدم إليكم برجاء أخير وهو أن تنسوا للحظة واحدة أنكم ضباط فرنسيون وأن تتجردوا لحظة واحدة عن بزاتكم العسكرية الأنيقة، وأن تعودوا رجالاً عاديين وأن تقدروا المسؤولية الثقيلة الملقاة على كواهلكم، وأن تخوضوا إلى أعماق ضمائركم، ثم تصدروا قراركم الذي لن يكون إلا قرار براءة، إنكم ستبرؤون هنانو لأن الوطنية ليست جريمة، ولأن الوطن السوري ليس كلمة باطلة جوفاء، وباسم العدالة أعيدوا الحرية إلى هنانو».
وبعد كل ذلك ختم رئيس المحكمة المرافعات، ثم دخل ورفاقه القضاة إلى غرفة المذاكرة للتداول في هذه القضية الكبرى ولإعلان القرار النهائي. وبعد انقضاء ساعتين في غرفة المذاكرة عادت الهيئة الحاكمة إلى منصة القضاء لتلفظ حكمها، فنهض المستمعون نهضة واحدة، وظل القضاة واقفين، وقد خيم على الجميع جو من الرهبة والخشوع. كانت الأنظار كلها متجهة إلى الرئيس الذي بدأ بتلاوة الأسئلة والإجابة عليها بكلمتي نعم أو لا.
وكان السؤال الأول: هل هنانو مذنب بتشكيل عصابة من الأشقياء للنهب والسلب؟
وما كاد الرئيس يجيب على السؤال الأول بكلمة «لا» حتى علم المحامي وكل من كان حاضراً بأن البراءة من نصيب هنانو من جميع التهم المنسوبة إليه.
وهذا ما تم في تلك الساعة المهيبة، فكلما طرح الرئيس سؤالاً كان الجواب «لا» بأكثرية ثلاثة أصوات ضد صوتين من أصوات القضاة .
ولما انتهى الرئيس وأعلن براءة هنانو دوت قاعة المحكمة بالتصفيق الحاد، وسرت الهتافات كتيار الكهرباء في أرجاء دار العدل وباحة السراي والشوارع المجاورة مرددة: فليحيى العدل، فليحيى هنانو.
كانت الساعة قد قاربت التاسعة مساءاً وكانت الجماهير المحتشدة داخل دار الحكومة وخارجها تقدر بثلاثين ألفاً ونيف. وقد تعذر على المحامي الخروج من قاعة المحكمة فحمله الشيخ رضا الرفاعي على ذراعيه القويتين، وتمكن من المرور بين الكتل البشرية المتراصة، وأوصله إلى النائب العام الذي كان ينتظره في السيارة أمام باب السراي ليذهبوا إلى السجن العسكري ويبلغوا هنانو قرار المحكمة.
لكن لماذا لم يحضر هنانو جلسة النطق بالحكم؟ لقد ارتأت السلطة الفرنسية العسكرية أن تعيد هنانو إلى السجن قبل إصدار الحكم تحاشياً لأي حادث مفاجئ يمكن أن يقع. وكان هتافات الجماهير التي علت خارج السجن كفيلة بتفهيم هنانو أن براءته قد أعلنت. وأطلق سراح هنانو على الفور، وكان بانتظار هنانو ومحاميه فتح الله صقال على باب السجن عربة ذات حصانين، وما كادا يركبانها حتى تدفقت الجماهير كالسيل الجارف، فحلت الحصانين وراحت تجر العربة بدلاً منهما، حتى وصلوا إلى دار هنانو.
وتبعت يوم البراءة أيام مشهودة، لبست فيها الشهباء حلل الزينة، ونعمت خلالها بالأفراح والمسرات، وهرعت إليها من البلدان السورية ومن كثير من الأقضية والضواحي جموع المهنئين وجماهير الوطنيين، وساروا إلى دار الزعيم إبراهيم هنانو الذي لم يذق للنوم طعماً مدة ثلاثة أيام متوالية.
وفي صبيحة يوم الأحد الذي تلا يوم صدور البراءة، جاءت إلى دار المحامي أربعون عربة تحمل وجوه القوم وأقطاب الحركة الوطنية يتقدمهم الزعيم إبراهيم هنانو، وما كاد يرى والدة المحامي ترحب به وبصحبه حتى قبّل الزعيم يدها، ثم صافح والده، وراح يعبر بكلامه العذب البليغ عن شعوره الفياض بما أبداه ولدهما في سبيل الدفاع عنه. ثم شكر الشيخ رضا الرفاعي - وكان الفدائي الأول بين فدائيي هنانو- بدوره المحامي باسم الوفد ما بذله من مساع وجهود شاء الله أن تكلل بالنجاح وأن ينقذ ذلك الزعيم الكريم المحبوب.
استمرار الثورة
رغم وضع إبراهيم حتى الرقابة في منزله بعد إطلاق سراحه، إلا أن عدداً من رفاقه بقيادة الشيخ يوسف السعدون ومصطفى الحاج حسين وعقيل السقاطي ونجيب البيطار عادوا فاجتازوا الحدود إلى سورية قادمين من تركيا ليستأنفوا جهادهم ضد المستعمر الفرنسي. وكان أول عمل قاموا به بعد دخولهم إلى سورية مهاجمتهم لقافلة نقل البريد بين أنطاكية ودركوش في قرية الدركية يوم 26 آب 1922، حيث قضوا على الجنود الفرنسيين في القافلة والضابط الذي كان يقودهم. وفي عام 1923 استشهد المجاهد نجيب البيطار مع رفاقه بعد أن طوقته سرية فرنسية في نواحي إدلب، فظل يقاتل حتى استشهد مع رفاقه العشرين. وفي أواخر عام 1924 قام المجاهد عقيل السقاطي بمهاجمة دار الحكومة في السفيرة وقتل بعض الجنود الفرنسيين. ولما نشبت ثورات الجنوب وحماة سنة 1925، اتصل الزعيم هنانو بالثوار من أجل إعداد سرية مجاهدين لدعم الثورة، لكن هذه السرية تم تطويقها في كفر تخاريم من قبل الفرنسيين، وفكت الحصار بعد معركة شرسة.
وقد دامت أعمال المجاهدين في المنطقة الشمالية في تلك الفترة من 20 كانون الأول 1925 وحتى 15 نيسان 1926 قاموا خلالها بأعمال مجيدة في مواقع عدة منها: الفندق، خير جاموس، القصير الوسطاني، بستقول، حربنوس، بياطس، كلة الثانية، كوتي بيوك، العلاني، عز مارين، تل عمار، وغيرها. وكانوا ينزلون بالعدو أفدح الخسائر، فيما كان الكثير يستشهد في سبيل وطنه وشعبه.
ومن أهم المعارك التي جرت في تلك الفترة معركة تل عمار، والتي كانت آخر معارك الثورة في المنطقة الشمالية، وجرت في أوائل شهر نيسان 1925. في هذه المعركة فاجأت كتيبة فرنسية مدعومة بالطائرات مجموعة من المجاهدين وأحكمت الطوق حولهم، ولكن المجاهدين تمكنوا من الإفلات بعد أن خسروا 13 شهيداً منهم الشهيد عقيل السقاطي أحد قادة الثورة، أما الفرنسيون فقد خسروا طائرة من طائراتهم و27 قتيلاً بينهم ضابط.
نهاية الثورة في المنطقة الشمالية
بعد هذه المعركة كانت ذخيرة المجاهدين قد نفذت، فيما هددت السلطات التركية المجاهدين بتسليم عائلاتهم التي لجأت إليها إلى الفرنسيين إن لم يوقفوا عملياتهم العسكرية، فلم يجدوا مناصاً من العودة إلى تركيا، واضعين بذلك نهاية لثورة وقفوا فيها أمام جيوش الاحتلال لمدة ناهزت سبع سنوات، خاضوا خلالها 117 معركة، سقط فيها مئات الشهداء.
من نتائج ثورة الزعيم إبراهيم هنانو في المنطقة الشمالية
كانت أهم نتائج الثورة إجبار الفرنسيين على الاعتراف بشرعية الثورة كبقايا لحكومة فيصل، ما دعاهم إلى مفاوضة الزعيم مفاوضة الند للند، وجاء ذلك بعد أن تكبد الفرنسيون خسائر فادحة في الرجال والمال والسلاح. أما النتيجة الأهم للثورة، فكانت إعادة دمج دولة حلب بدولة دمشق بعد فصلهما. عندما أدرك الفرنسيون أن لا سبيل إلى فصم وحدة التلاحم الوطني بين سكان هاتين المنطقتين.
عمله في السياسة
بعد محاكمة الزعيم هنانو وتبرئته، فرضت عليه الإقامة الجبرية، وتمت مراقبة حركاته من قبل رجال الاستخبارات الفرنسية، ولكن الزعيم هنانو تمكن من الإفلات من هذه الرقابة إبان ثورة 1925 لتحضير ثورة جديدة تخفف الضغط عن ثورة أبناء الجنوب، لكنه لم يوفق إلى إثارة حركة فاعلة نتيجة ضعف الإمكانات.
تزعم هنانو الحركة الوطنية في شمال سورية. وفي سنة 1928 تم انتخابه في اللجنة التأسيسية وكان من أبرز أعضائها قبل تعليق جلساتها من قبل سلطات الاحتلال الفرنسي، حيث تم تعيينه رئيساً للجنة الدستور. وشارك هنانو مع إخوانه في تشكيل الكتلة الوطنية التي قادت النضال السياسي للشعب السوري مع الزعماء هاشم الأتاسي، عبد الرحمن الكيالي، عبد الحميد الكرامي، عبد القادر الكيلاني، الأمير سعيد الجزائري، فاخر الجابري، مظهر رسلان، عفيف الصلح، نجيب البرازي، إحسان الشريف، عبدالله اليافي، عبداللطيف بيسار، وعبدالرحمن بيهم، وذلك في بيروت في 25 تشرين الأول 1927. وفي عام 1932 وفي مؤتمر الكتلة الوطنية انتخب هنانو زعيماً للكتلة الوطنية، وساهم عام 1933 في استقالة حكومة حقي العظم بسبب نيتها الموافقة على المعاهدة الفرنسية التي كان يرى أنها مجحفة بحق آمال السوريين في الاستقلال والحرية.
محاولة اغتياله
في أيلول من عام 1933 قام شخص يدعى نيازي الكوسى بإطلاق النار على هنانو في قريته كفر تخاريم إلا أن الرصاص أصاب قدمه، وقد تم القبض على مطلق النار في أنطاكية وحكم عليه بالسجن عشر سنوات، إلا أن المفوض السامي الفرنسي أصدر عفواً بحقه، ما يشير إلى علاقة الفرنسيين بمحاولة الاغتيال.
وكان بيته محجاً لرجال الحركة الوطنية قبل أن يسلم الروح في 21 تشرين الأول 1935 بعد صراع مع مرض السل.
نهاية حياة الزعيم هنانو
لقد أوهنت الحياة المجهدة والنضال الطويل جسد الزعيم هنانو، فأصيب بالسل، وأصبح مرضه مزمناً، وتوفي بسببه يوم الثلاثاء الموافق 11 تشرين الثاني 1935، وكان أول من نعاه إلى سائر الأمة العربية رفيق دربه وجهاده سعد الله الجابري، وقد أذن المؤذنون ودقت أجراس الكنائس حاملة نبأ وفاة الزعيم الوطني الكبير. وشيع فقيد الأمة في موكب مهيب يوم السبت 14 تشرين الثاني وصلي عليه في الجامع الأموي في حلب. وشاركت في التشييع وفود من مختلف المحافظات السورية والبلاد العربية. وبهذه المناسبة عقد الحداد لمدة ثلاثة أيام وصدرت الصحف مجللة بالسواد في يوم وفاته.
"اكتشف سوريا"