ولد الشاعر الكبير خليل مردم بك في دمشق عام 1895 لأب هو أحمد مختار مردم بك، وأم هي فاطمة محمود الحمزاوي (مفتي دمشق وعلامتها)، ولم يكن له أخوة من الذكور، وإنما كان له خمس شقيقات.
ذهب إلى الكتّاب وهو في السّابعة، ولمّا تجاوز العاشرة دخل مدرسة الملك الظاهر الابتدائيّة الرسميّة، وبعد أن أمضى فيها ثلاث سنوات، انتقل إلى المدرسة الإعدادية الرسمية حيث مكث سنة ونيفاً، لكنّه لم يكد يتم الخامسة عشرة من عمره حتّى فقد أباه. وبعد أربع سنوات فقد أمّه، وقد طبعه اليتم بطابع الصّمت والعزلة والحياء والانطواء على النّفس، والابتعاد عن المجتمع، وقد لازمه هذا الطّبع طوال أيّام حياته.
درس الحديث، على يد المحدّث الشيخ بدر الدين الحسني، وأشرف على تعليمه الفقه، مفتي الشّام، الشيخ عطا الكسم، وتولاّه في الصّرف والنّحو، الشيخ عبد القادر الإسكندراني وهو من علماء دمشق، فأفاد منهم وأخذ عنهم حتّى علقت به أساليب القدماء وطرقهم، وأخذ يقرض الشّعر، قبل بلوغه الخامسة عشرة من عمره.
ولما جلا الأتراك عن دمشق أواخر عام 1918 وقامت الحكومة العربية، عُيّن مميّزاً لديوان الرّسائل العامة، وبعد سنة، عُيّن مدرّساً في مدرسة الكتّاب والمنشئين، التي أنشأتها الحكومة لتدريب موظفيها، ولما أعلن استقلال سورية، وبويع الملك فيصل الأول ملكاً عليها، وتألفت أول وزارة سورية، نقل من ديوان الرسائل العامة، وسمي معاوناً لمدير ديوان الوزراء، وبعد أن دخل الجيش الفرنسي دمشق، صرف من العمل في الحكومة.
في عام 1921 أسس مع محمد الشريقي، والشماس أبيفانيوس زائد، وسليم الجندي، وحليم موس، وأحمد شاكر الكرمين، وقبلان الرياشي، وعبد الله النجار، وجورج الريس، ونسيب شهاب، وماري عجمي، وعز الدين علم الدين، ونجيب الريس، وحيدر مردم بك، وفخري البارودي، وزكي الخطيب، وسيمون لويس، وميشيل سعد، وفيليب سعد، وراشد البيلاني، وإبراهيم حلمي، وإبراهيم دادا، وحبيب كحالة، وغيرهم، جمعية «الرابطة الأدبية»، على غرار الرابطة القلمية في نيويورك، وانتخب رئيساً لها، وقد عقدت أول اجتماع لها في الرابع من آذار 1921، وكانت غايتها «توحيد قوى الأدباء المتفرقة وتنظيم صفوفهم، ليتسنى لهم الفوز في معترك الحياة الأدبية الذي كاد يستظهر فيه الأدعياء، وينتصر المبطلون».
في عام 1925 انتخب عضواً في المجمع العلمي العربي بدمشق، فتقدم إليه برسالة عن شعراء الشام في القرن الثالث الهجري، وفي هذا العام اندلعت نيران الثورة السورية الكبرى، التي بدأت بـ ثورة حوران، والقنيطرة، واضطرابات دمشق وحمص وحماة، كذلك ثورات الشمال ، وفي نهاية المطاف بثورة جبل العرب وقائدها سلطان باشا الأطرش، فأخذ يغذّيها بقصائده الوطنية اللاهبة التي تدعو إلى إثارة الشعب، ورد الطغيان، ورفع الظلم، فطاردته السلطات الفرنسية، وذلك بعد أن أقامت جهازاً إدارياً فصل لبنان عن سورية، وقسم سورية إلى وحدات منفصلة على أسس عرقيّة ـ دينية مناطقية، ففرّ الشاعر خليل مردم بك إلى لبنان واختفى بقرية المروج بمساعدة الشاعر أديب مظهر، ولما علم الفرنسيون بوجوده هناك، فرّ إلى الإسكندرية عام 1926 ونزل عند صهره الدكتور أحمد قدري، وبعد أربعة أشهر غادر الإسكندرية إلى لندن لدراسة اللغة الإنكليزية وآدابها في جامعتها، فمكث فيها ثلاث سنوات، استطاع أن يحصل في نهايتها على شهادة عالية تعادل الدكتوراه، ولا نجد أثراً للأدب الإنكليزي والحياة في بريطانيا في شعره، إلا ما ندر، وقد ظهر في قصيدته «سكران وسكرى» و«بردى والرقص».
في عام 1929 عاد إلى دمشق بعد أن أمَضّه فراقها، وتاقت نفسه إلى مرابع غوطتها الغناء، وحيّاها بقصيدة «سلام على دمشق» التي قال فيها:
تلاقوا بعدما افترقوا طويلاً فما ملكوا المدامع أن تسيلا
بقيّة فتية لم تبقِ منهم صروف زمانهم إلا قليلا
دمشق ولست بالباغي بديلا وعن عهد الأحبّة لن أحولا
ذكرتك واللهيب له وميض ينشر من شائقه ذيولا
وحين استقرّ به المقام في دمشق، عين مساعداً لرئيس الأدب العربي في الكلية العلمية الوطنية وظل فيها تسع سنوات (1929 ـ 1938) ألف خلالها سلسلة «أئمة الأدب العربي» التي نشر منها خمسة أجزاء هي: الجاحظ، ابن المقفع، ابن العميد، الصاحب بن عباد، والفرزدق.
في عام 1933 أصدر مع الدكاترة: جميل صليبا، وكامل عياد، وكاظم الداغستاني مجلة «الثقافة» فعاشت سنة واحدة، وفي عام 1941 انتخب أمين سر عام للمجمع العلمي العربي فراح يعمل مع الرئيس محمد كرد علي بمنتهى الإخلاص والانسجام والصفاء، وفي عام 1942 عين وزيراً للمعارف، لكنه لم يلبث أن عاد إلى العمل الذي أحبه ألا وهو التنقيب في كتب التراث العربي، فحقق ديوان ابن عنين عام 1946، وديوان علي بن الجهم عام 1949، وديوان ابن حيوس عام 1951، ثم ديوان ابن الخياط عام 1958، والذي صدر ضمن منشورات المجمع العلمي بدمشق، ووضع لكل ديوان مقدمة في حوالي خمسين صفحة.
بعد أن طارت شهرة الشاعر خليل مردم بك في الأفق، تهافتت عليه المجامع اللغوية تلتمس منه قبول عضويتها، فانتخبه مجمع اللغة العربية في مصر عضواً عام 1948، والمجمع العلمي العراقي عضواً عام 1949، ومدرسة الدراسات الشرقية بلندن عضواً عام 1951، ودائرة المعارف الإسلامية للمستشرقين عضواً في تحريرها 1951، ومجمع البحر المتوسط في بالرمو بإيطاليا عضواً عام 1952، والمجمع العلمي السوفييتي عضواً عامً 1958.
في عام 1951 عين وزيراً مفوضاً في السفارة السورية ببغداد، فتحولت السفارة خلال السنوات الثلاث التي قضاها هناك إلى منتدى أدبي للطبقة العالية من رجال الفكر والسياسة والأدب، ولم يغادر عاصمة العراق إلا بعد أن استدعي إلى دمشق ليتسلم حقيبتي وزارة الخارجية ووزارة المعارف، وانتخب في الوقت نفسه رئيساً للمجمع العلمي العربي خلفاً لمؤسسه الأستاذ الرئيس محمد كرد علي الذي توفي عام 1953، فبلغ بذلك أعلى ما يطمح إليه عالم وأديب، ثم اعتزل السياسة ليتفرغ إلى أعماله الأدبية التي شغل عنها، لكنه نسي أن القدر كان له بالمرصاد، فقد تراكمت عليه العلل والأمراض التي حدت من نشاطه، إلى أن أطبق الموت عينيه في الحادي والعشرين من شهر تموز عام 1959 ودفن في مقبرة الباب الصغير في دمشق.
على الرغم من انصرافه إلى الأعمال الإدارية والدبلوماسية في وزارتي المعارف والخارجية والمجمع العلمي العربي الذي ظل رئيساً له مدة سبع سنوات، فإنه ترك لنا ثلاثة وعشرين كتاباً بين مؤلف ومحقق لم ير النور منها في حياته إلا كتاب «شعراء الشام في القرن الثالث الهجري»، وسلسلة «أئمة الأدب»، ودواوين ابن عنين، وابن الجهيم، وابن حيوس، وابن الخياط، التي قام بتحقيقها. أما الكتب الأخرى فقد بقيت مخطوطة، إلى أن قام نجله الوحيد عدنان بإصدارها تباعاً بعد وفاته، وأولها ديوانه الذي صدر عن المجمع العلمي العربي بدمشق عام 1960، وقدم له الدكتور جميل صليبا، والدكتور سامي الدهان، كذلك أصدر له المجمع كتاب «جمهرة المغنين» وكتاب «الأعرابيات».
أما الكتب الأخرى التي أصدرها نجله عدنان على نفقته الخاصة فهي: «أعيان القرن الثالث عشر»، «شعراء الأعراب»، «دمشق والقدس في العشرينات»، «الشعراء الشاميون»، «يوميات الخليل»، «رسائل الخليل الدبلوماسية»، «محاضرات الخليل في الإنشاء العربي»، «الشاعر أبو نواس»، «الشاعر ابن الرومي»، وكان ينوي إصدار كتابه الأخير «دراسة عن لزوميات أبي العلاء المعري» لو لم يعالجه الموت.
اهتم خليل مردم بك بالنواحي القومية والإنسانية في شعره، اهتمامه بوصف الطبيعة وكان يرى أن على الشاعر مسؤولية إنهاض قومه وإيقاظ شعبه من غفلته:
إذا لم ينبه شاعر القوم قومه فذاك بأن يشقى به قومه أحرى
أرى الشعر أنفاساً يصرفها الفتى فيطفي بها جمراً ويذكي بها جمرا
وينفخها روحاً بميت أمة فتنسل من أحداث غفلتها تترى
وأي فضل لشاعر عربي معاصر لا يرثي شهداء العروبة ولا يتغنى بالاستقلال، ولا يدعو إلى الثورة على الاستعمار، ولا يقدس الوحدة العربية؟
لقد جمع الخليل في شعره الحماسي بين هذه الأغراض كلها، فبكى الشهداء في قصيدته «ذكرى يوسف» (العظمة) قائلاً:
أعكف على جدث في عدوة الوادي بميسلون سقاه الرائح الغادي
وطأطئ الرأس إجلالاً لمرقد من قضى له الله تخليداً بأمجاد
في فتية نفروا للموت حين بدا جريدة من زرافات وآحاد
صلى الإله عليهم من مجندلة أشلاؤهم بين أغوار وأنجاد
ودعا إلى الثورة والنضال وحفز الهمم، وإثارة النخوة في قصيدته «الحلف والجار» قائلاً:
بني العروبة كم من صيحة ذهبت أو يستثار بها الموتى إذن ثاروا
يا ليت شعري ماذا يستفزكم حمى مباح وإذلال وإفقار
أرى الحجارة أحمى من أنوفكم كم أرسلت شرراً بالقدح أحجار
ووصف الثورة السورية في قصيدته «يوم ميسلون" قائلاً:
مصيبة ميسلون وإن أمضت أخف وقيعة مما تلاها
فما من بقعة بدمشق إلا تمثل ميسلون وما دهاها
فسل عما تصبب من دماء تخبرك الحقيقة غوطتاها
ودعا إلى الوحدة العربية الكبرى قائلاً:
فكيف ترجي جمع قيس ويعرب وشملك يا هذا شتيت مفرق
وكيف ترجي وحدة عربية ومن دون راشيا حدود وبيرق
ولا يقل شعره الاجتماعي أهمية عن شعره الوطني والقومي فقد دعا إلى إصلاح الفساد الاجتماعي، وتهذيب الفتيات، وذم من يتمسك بالقشور من رجال الدين، وانتقد العادات الفاسدة، ونادى بالأخذ بما جاء في الحضارة الغربية من قيم صالحة، وعطف على النساء الجائعات والأطفال الجائعين كما في قصيدتيه «شهيدة الطوى» و«اليتيم الجائع» التي يقول فيها:
هل من يعين على التجلد ساعة فمع الدموع تجلدي قد سالا
طفل بجوف الليل يبكي عارياً نال الضنى من جسمه ما نالا
ما راعه إلا دنوي نحوه كالفرخ ريع لكاسر قد صالا
كان هنالك إجماع على اختيار كلمات الشاعر خليل مردم بك ككلمات لنشيد الوطن، ولكن في عام 1938 أعلنت الحكومة السورية عن مسابقة لاختيار لحن لـ «حماة الديار» وشُكّلت لجنة خاصة لهذا الغرض فتقدم لهذه المسابقة عدد كبير من الملحنين، حيث قارب عددهم الستين ملحناً وكان من قائمة المتقدمين، الأخوان أحمد ومحمد فليفل من بيروت، وعلى ما يبدو لم يرق ذلك اللجنة.
وأمام رفض اللجنة استقبالهما لم يجدا من سبيل إلا اللجوء إلى السيد فارس الخوري الذي كان رئيساً لمجلس النواب السوري آنذاك حيث شكيا له اللجنة وردة فعلها، فطلب منهما سماع اللحن الذي أعجبه، وعلى ما يبدو فإن «الواسطة» لم يكن لها ذلك التأثير، لذلك لم يشأ فارس الخوري التدخل بعمل اللجنة بل طلب من الأخوين فليفل تعليم أطفال المدارس اللحن كنشيد وطني عادي لا كنشيد رسمي، وبهذه الطريقة انتشر النشيد واللحن على كل لسان وظل الأمر على حاله حتى انعقاد اجتماع سان فرانسيسكو الذي بحث استقلال سورية، حيث مثل سورية فيه فارس الخوري (قصة جلوسه على كرسي المندوب الفرنسي معروفة) وفي ذاك الاجتماع تم إقرار حق سورية في الاستقلال، ومن هناك أعلن فارس الخوري، أن النشيد الوطني الرسمي لسورية سيكون «حماة الديار»، ألحان الأخوين فليفل. وأثناء العرض العسكري الذي أقيم احتفالاً بالجلاء لجيشنا الفتي عام 1946، كانت مكبرات الصوت تذيع النشيد الوطني بلحن الأخوين فليفل.
حُمــاة الدّيــارِ عليكم سلام أبت أن تذِلَّ النّفــوسُ الكرام
عرين العـــروبة بيتٌ حَرام وعرش الشّموسِ حِمىً لا يُضام
ربوع الشــّـآمِ بروجُ العُـلا تُحاكي السّماءَ بعـــالي السَّنا
فأرضٌ زهتْ بالشّموسِ الوِضا سماءٌ لَعَمْـــرِكَ أو كالسَـما
رفيفُ الأماني وخَفقُ الفــؤادْ على علَمٍ ضـمَّ شَمْلَ البــلادْ
أما فيهٍ منْ كُلِّ عينٍ ســـوادْ ومن دمِ كُلِّ شَــهيدٍ مِــداد؟
نفــوسٌ أُباةٌ وماضٍ مجيــدْ وروحُ الأضاحي رقيـبٌ عَتيـدْ
فمِنّـَا الوليـدُ ومِنّـَا الرَّشيـدْ فلـِمَ لا نَسـودُ ولِـمْ لا نُشيدْ؟
توفي الشاعر العظيم خليل مردم بك في دمشق، في 21 تموز 1959، ودفن في مقبرة الباب الصّغير، بجوار محمد كرد علي، ومعاوية بن سفيان، وبقيت شلاّلات شعره ورذاذها، تبلّل شجر الياسمين، النّوافذ، الأحياء العتيقة، والشّرفات الخشبية الدّمشقية، شلاّلات تعشق الصّعود إلى العلا.
مؤلّفاته
ـ ديوان خليل مردم بك، طبع عام 1960 بعد وفاته.
ـ شعراء الشام في القرن الثالث الهجري (العتابي، ديك الجن الحمصي، أبو تمام، البحتري).
ـ شعراء الأعراب، 1978، وقد ضمّ أربعين شاعراً من شيوخ العربية وروّاد فقه اللغة، منــهم:النابغة الشيباني، مالك بن الريب، بيهس الجرمي، أبو نخيلة، جرير، مزاحم العقيلي، ميسون بنت بحدل الكلبية زوجة معاوية وأم يزيد.
ـ الشعراء الشاميون: ضم هذا الكتاب سبعة من شعراء الشام الذين عاشوا في عصـــور مختلفة: الطرماح بن عدي، ابن حيوس، ابن الخياط، ابن عنين، عبد الملك بن عبد، الرحيم الحارثي، الوليد بن يزيد، عدي بن الرقاع.
ـ سلسلة أئمة الأدب العربي: صدر منها : الجاحظ، إبن المقفّع، إبن العميد، الصاحب، الفرزدق.
ـ دمشق والقدس في العشرينات : ضم مجموعة من المقالات التي نشرها الصحف والمجلات في عشرينات القرن الماضي .
ـ الشاعر أبو نواس .
ـ الشاعر ابن الرومي.
ـ يوميات الخليل.
ـ رسائل الخليل الدبلوماسية.
ـ محاضرات الخليل في الإنشاء العربي.
ـ جمهرة المغنين.
ـ الأعرابيات.